الاثنين، 15 يونيو 2015

رفيقي الشاحب



رفيقي الشَّاحب
فولفغانغ بورشيرت
ترجمة عن اﻷلمانية: تاج الدين محمد


لم يكن هناك شيئاَ  قط  يُضاهي بياض هذا الجليد. لقد كان أقرب إلى اللون  الأزرق المائل للإخضرار. أبيضٌ بصورة بشعة. فالشمس ذاتها لم تجرؤ على الإصفرار بسبب هذا البياض. لم يكن هناك قط صباحاَ من صباحات الأحاد أكثر صفاءاَ مثل صباح هذا الأحد. فقط هناك في الخلف غابة زرقاء مظلمة. أما الجليد فقد كان جديداَ و صافياَ مثل مقلة حيوان. لم يُري يوماَ جليداَ بمثل هذا البياض في صباح هذا الأحد. ولم يكن هناك صباح أحد يضاهي صباح هذا الأحد صفاءاَ... ضحك العالم .., العالم الجليدي ... عالم الأحد.  ولكن في مكان ما كانت هناك ثمة لطخة... شخصٌ ما يرقد على الجليد. ساقاه  مسحوبتان إلى بطنه وقد كان يرتدي زياَ عسكرياَ لقد كان  مجرد حزمة من العظام  والجلد مدثرة بالخرق و الأثمال المليئة بالدماء الجافة. شعره كان هامداَ هامداَ مثل باروكة. صرخ صرخته الأخيرة و هو منحني، ربما كان يصلي للجليد على أرجح. جندي ... لطخة من الدماء  على جليد لم يرى مثله من قبل في صباح أحد أكثر صفاءاَ من أي صباح.  أجواء الحرب توبيخ جاذب للألوان المائية.
 دماءٌ وجليدٌ وشمس... صقيعٌ قارصٌ مترعٌ بالدماء الدافئة ... الشمس العزيزة في كل  الأنحاء... شمسنا العزيرة... كل أطفال العالم يرددون: الشمس العزبزة... الشمس العزيزة ستشرق على الموتي، الذين يصرخون صرخات  الغير مسموعة لكل الدمى الميتة. الصرخات الصامتة ... الصامتة على نحو مروع. 

ـــ أنهض أيها الرفيق الشاحب! من منا يمكنه إحتمال صرخات الدمى الصامتة  وقد نزعت من خيوطها لتكون ملقاة بشكل سخيف على المسرح. يا للهول!! من منا يمكنه إحتمال صرخات الموتى الصامتة. فالجليد وحده يمكنه إحتمال ذلك و كذلك الشمش... الشمس العزيزة.
أمام الدمية الممزقة كانت هناك دمية أخرى مازالت تتحرك. أمام الجندي الميت يقف أحد الجنود الأحياء. في صباح كصباح هذا الأحد في جليد أبيض لم يري من قبله مثيل ألقى الجندي الواقف على الجندي الراقد هذا الخطاب الصامت... الصامت على نحو مفزع: 

ــــ مرحى، مرحى، مرحى . الآن هذه هي نهاية روحك المرحة يا عزيزي ــــ روحك المرحة أبداَ... الآن لا يمكنك أن تتفوه بأي شيء... لماذا؟؟ الآن لايمكنك أن تضحك مجدداَ. لو تعلم حبيبتك كم هو بائساَ منظرك الآن يا عزيزي!! تبدو  مثيراَ للشفقة بدون روحك المرحة. كم هو غريب وضعية جسدك هذه . لما سحبت ساقيك إلى بطنك؟؟  الآن أفهم، لقد إخترقت إحداهن بطنك، لقد لطخت نفسك بالدماء . تبدو مقرفاَ...  بزتك ملطخة ببقع سوداء كبقع الحبر.
من الجيد يا عزيزي أن حبيبتك لا يمكنها رؤية ذلك لطالما كنت دائماَ هكذا في بزتك العسكرية، ربطة الخصر كانت مهمة جداَ بالنسبة لك. عندما صرت جنرالاَ، كنت مازلت تنتعل حذاء الجنود، تقضي ساعات طويلة في تلميعهما، عندما كنت تذهب  إلى المدينة عند المساء. ولكن الآن ليس بمقدورك الذهاب إلى المدينة مجدداَ. الآن تهجرك حبيبتك و تهب نفسها لآخرين، لأنك غير قادر على الذهاب مجدداً... هل تفهمني؟؟ ليس بعد اليوم يا عزيزي!! ليس بإمكانك أن تضحك مجدداَ في غياب روحك المرحة. الآن ترقد هناك وكأنك لا تستطيع أن تحسب حتى الرقم ثلاثة. هل يمكنك أن تحسب حتى ثلاثة؟؟ هذا بائس!! بائس جداَ يا عزيزي. و لكن إنه لأمر جيداً جيد هكذا! حيث لا يمكنك أن تنعتني بــ " رفيقي الشاحب ذو الجفن المعلق" 
 ليس بعد الآن يا عزيزي!! من الآن فصاعداَ. ولايمكن للآخرين أن يهللوا لك لقاء هذا الأمر، ليس بمقدور الآخرين أن يضحكوا علي , أنت تنعني  بـ" رفيقي الشاحب ذو الجفن المعلق" هذا يعني الكثير... هل تدري ذلك؟؟  يعني الكثير بالنسبة لي... هذا كل ما يمكنني قوله.
لقد أذقتني الأمرين منذ أن كنا في المدرسة، لقد كنت تجلس على رأسي مثل القمل. لأنني كنت أعاني من بعض الخلل في عيني، جفني كانت تسقط للأسفل. لأن بشرتي كانت بيضاء جداَ كالجبن كنت دائماَ تقول لي: "رفيقنا الشاحب يبدو منهكاَ اليوم". الصبايا كن يتسآلن إذا ما كنت نائماَ حقاَ، و كن دائماَ ينعتنني بالنعسان. أجل لقد كنت نعساناَ لكنني الآن أود أن أعرف، من هوالنعسان منا الآن أنت أم أنا ؟؟ أنت أم  أنا ؟؟ من يا عزيزي "الرفيق الشاحب ذو الجفن المعلق" من منا أنت أم أنا ؟؟
عندما أغلق باب القبو خلفه، أتت درزينة من الوجوه الشاحبة نحوه قادمة من الركن. لقد  كان أحدهم يتبع للشاويش: ـــ هل عثرت عليه يا سيدي الملازم؟ سأله أحد الوجوه  الشاحب’ لقد كان شاحباَ بصورة مفزعة.
ــ أجل  بالقرب من شجرة التنوب رصاصة في البطن. هل ينبغي علينا جلبه؟
ـــ أجل بالقرب شجرة التنوب... أجل بالـتأكيد يجب علينا جلبه.
 أختقت درزينة الوجوه الشاحبة. جلس الملازم على موقد القصدير يزيل القمل...  بالضبط كما بالأمس. بالأمس كذلك كان يزيل القمل. لقد كان على أحدهم أن يرفع تقريراَ للكتيبة. ومن الأفضل أن يكون الملازم نفسه. حينما كان يرتدي قميصه سمع صوت إطلاق نار لم يسمع مثله من قبل. عندما فتح الفرد المستطلع الباب مجدداَ. رأي الظلام. لم يشهد قط ليلاَ بمثل هذه الظلمة. رأي الضابط الأدني منه رتبةَ هلير لقد كان يغني وهو يحكي عن رحلة قام بها لزيارة حبيبته. بمزاجه الرائق دوماً قال هيلر:
ــ لا يمكنني الذهاب إلى الجبهة سيدي الملازم !! فأنا أطالب بمضاعفة حصتي من الطعام أولاً. يمكنني أن أعزف الأكسليفون على ضلوعك. هذا مروع جداً!!  تبدو مريعاً للغاية. 
هذا ما قاله هيلر. إبتسم كل الجنود الحاضرين في تلك الظلمة. قال الملامم: ـــ شخص ما ينبغي عليه الذهاب لتفقد أحوال الكتيبة أما أنت يا  هيلر ماذا لو هدئت من إندفاعك هذا!!
حاضر سيدي!!  قال هيلر مجيباَ.
هذا كل ما قاله هيلر... لا يمكن للمرء أن يقول أكثر من هذا ثم غادر بعدها هيلر و لم يعد.
رفع الملازم قميصه إلى رأسه، لقد سمع الملازم أصواتهم وهم يعودون بهيلر.
ــــ ليس بأمكانه أن ينعتني مجدداَ بـ" رفيقي الشاحب ذو الجفن المعلق". كان الملازم يقول ذلك بصوت مهموس. لأ يمكنه قول ذلك بعد الآن. فلاحت  قملة في ظفر أصبعه الأكبر... صوت طرقعة ...ماتت القملة. ثم  كانت هناك بقعة من الدم على جبينه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق